خارج العاصمة:حوارات دورة المياه

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
30/10/2009 06:00 AM
GMT



 الرعب، الرعب بعينه، اللفظة التي تنتظر خطّها على جدران دورة المياه العامة. حلمتُ البارحة بمرحاض زجاجي، حُشِر فيه رجل كسمكة السردين في علبة محكمة الإغلاق. وكان مقبض باب المرحاض مصنوعاً من حلقة معدنية تشبه حلقة السحب في غطاء علبة السردين. وبدلاً من كلمة (اسحبْ) أُلصِقت بباب المرحاض الزجاجي كلمة (افرغْ). وكانت هذه الكلمة تتناسب وأفكاري عن عملية الكتابة. فليست هذه الأخيرة إلا عملية (إفراغ) أو (إفراز) تعقبها حالة اختلاء مريح، ودورة امتلاء جديد. ما من شيء إضافي جميل و نبيل يزيد على هذه العملية الدورية. ولا شيء يُضاف على قيمة الحوارات القصيرة التي تدور بين المنتظرين أمام علب الإفراغ العامة. ولن تدرك أهمية ما يختفي تحت سطحها الهادئ، فأنت تخوضها وكأنك شخصية في رواية. لطالما شعرت بأن حواراً بين اثنين في مكان مغلق، يجب أن يُدار بتلك الأهمية المصممة في الروايات، مهما كان الحوار تافهاً وبعيداً عن الحقيقة، أو واسع الاستغراق شديد الالتصاق بالحالة الإنسانية المفوَّهة. لاحظتُ أن وقت الحوار الروائي غير محدود، تتفرع ألفاظه وتنزلق دونما عائق بيولوجي. وكما يقرر الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو فإن هذا الحوار يعمل على مستويين: مستوى الحوار السطحي، والآخر الأشد غوراً وسرية، كما لو أن حصاناً يقف متحفزاً أمام كومة قش يحدس أن شيئاً غريباً وخفياً سيظهر منها. فالكلام يمثل مستوى الحوار الأول، والوقفة تمثل مستواه الثاني. وأياً كانت مدة الوقفة فهي تحفز المتكلم على العلن والمواصلة. جرّب ساباتو هذا التكنيك الحواري في رواية (أبطال وقبور) وجزئها الثاني (ملاك الجحيم) وأسند لشخصياته مهمة المراوحة بين الوقفة والكلام، على مستوى السطح المدني وفي أقبية مجاري بيونس آيريس. وخلال الانتقال من مستوى الإملاء إلى مستوى الإفراغ، يفرز الأحياء كلمة (الرعب) كي تستقر في الأعماق، أعماق المدن التي تسير نحو الانحلال. طالت وقفتي في فسحة الدورة، حتى التحق بي رجل يستعجل الإفراغ، لاحظ بارتياح ضرورة الاختلاء في علب نظيفة، ثم أضاف: ((لحسن الحظ طُليت الجدران بدهان يمنع الكتابة عليها)). قابلتُ ملاحظته بملاحظة مفاجئة: ((ستكون العلب أكثر راحة لو إنها بُنيت من ألواح زجاجية)). بعد وقفة قال: ((لن نصل إلى هذه الحال)).أسرعتُ باعتراضه: ((ومن يمنع نفسه من الكتابة؟ الفسح الضيقة تدفعك إلى إفراز كل شيء)). احتبس ثم همس: ((لا أظنك من هؤلاء! وعلى أية حال ضع عبارتك إن شئت، فلا شأن لي بهذه الأمور)). انفتح باب إحدى العلب، فانفتل صاحبي داخلاً، مخلفاً إياي في المستوى الأعمق من الحوار، إلا أن مختلياً ثانياً سرعان ما ملأ وقفتي، وشاركني الانتظار. كان هذا على أهبة الانفجار فصبَّ نقمته الحبيسة دونما احتراز أو اعتبار لدرجات الحوار. وكنت قد خبرتُ أمثال هذه الإفراغات العدوانية التي تتدحرج كسيل عكر، وتنتهي عند المستوى الأدنى لحوار المرضى باحتباس البول، قطرات من الضآلة والمهانة. أفرغ رعبه بصوت كسير، محدثاً نفسه ولا ريب: ((تزداد إفرازات الجسد مع تقدم المرء في العمر. كلما زادت حاجته للإفراز تدهور جسده أكثر واقترب من حدّ الاحتباس والعسر.. وإذ يتكاثر عدد المراحيض في الزوايا والأزقة، يتكاثر عدد أولئك الحاملين انهيارهم في كعوب أقدامهم..إنها نتن المدينة، بل هي موتها..)) استدار المحتبس وغادر فسحة دورة المياه، ليقترب رجل آخر متمهل حسبته منظف الدورة أو حارسها، وقد يعلم شيئاً خاصاً عن آداب الاختلاء فوق ما أعلم. سألته فأجاب بأنه ليس واحداً من خدم الدورة ولا هو قطعاً من خطاطي الكلمات المرعبة على جدران العلب. لكنه شخص مهموم بالدراجات النارية. استغربتُ حديثه واستفسرت إن كان المحتبسون يأتون إلى دورات المياه في هذه الأيام مسرعين مذعورين. قال: ((لا. إني أعني ما أقوله حرفياً. هذا وقت الدراجات النارية)). وافقته: ((حقاً أصبح انتشارها في الشوارع مخيفاً، تزأر وتخطف بين صفوف السيارات)). قال: (( لم تلحظ شيئاً مخيفاً. زئيرها يشتد ليلاً عندما تخلو الشوارع، ويخرج راكبوها من مدارج الظلام إلى عملهم المبهم)). أدركتُ قصده وعقبت: ((أجل. أنت مصيب. لا يحتاج رجال العمل الليلي هؤلاء إلى دورات المياه، ففضلاتهم تتناثر وراء ظهورهم)). ضحك هازئاً من طريقتي الحوارية، وخطئي في ربط الأقوال، وكان قد لاحظ قلم الكتابة الرشاش (السبري) يبرز نصفه من جيب قميصي، فأشار: ((هيا أكتب عبارتك، لا تنتظر شيئاً مفيداً أو شخصاً معروفاً لديك)). توالى على وقفتي محام غريب عن المدينة أدار حديثاً عن موكله السجين، ورسّام مفتون بخطوط الجدران السرية، وشرطي مرور ملأ حديثه بالإشارات، وسائق سيارة اشتكى من بواسيره، وفلاح انتهى من بيع محصول نخلاته في السوق، وصبي عصب رأسه بكيس بلاستك، وآخرون خلّفوني عند فسحة حلمي بالمراحيض الزجاجية، متردداً في خط عبارتي على جدار العلبة التي طال وقوفي أمامها، عبارة أرنستو ساباتو: ((ليس في نسيان الرعب عيب)).